منتديات شـــقــــاوي
منتديات شـــقــــاوي
منتديات شـــقــــاوي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات شـــقــــاوي

3alm mn al_ebda3
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 رواية جسر الموت القسم الثالث وهي اخر قسم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
alz3eema alm7rooma
الاداره
الاداره
alz3eema alm7rooma


ذكر عدد المساهمات : 443
تاريخ التسجيل : 29/08/2009
العمر : 28
الموقع : http://zac-efron.yoo7.com/posting.forum

رواية جسر الموت القسم الثالث وهي اخر قسم Empty
مُساهمةموضوع: رواية جسر الموت القسم الثالث وهي اخر قسم   رواية جسر الموت القسم الثالث وهي اخر قسم Emptyالسبت سبتمبر 12, 2009 12:11 am

ســــــــــــــــــــلام
1-‏

برقية عاجلة " تمنع مغادرة المكان.. سنوافيكم بأوامر جديدة"‏

استنفرت عناصر الكتيبة بحالة قصوى. تمركز الجنود في حفرهم، خلف السواتر الرملية والسطوح. اتخذت قيادة الكتيبة الطابق الثاني مقراً لها، حيث تنتصب راجمات الصواريخ فوق سطح البناء.‏

انتشرت السرية الثالثة حول المجلس الحربي. عناصر الإشارة يتلقون التعليمات. أخذت فصيلة الدبابات موقعها. وجّهت سبطانات المدافع إلى المجلس الحربي والصيفي، والأشرفية. تجمّدت الشمس في قبّة السماء. . الساعات تمرّ ثقيلة. . طال النهار!.‏

أخذت عناصر الكتيبة مواقعها في ثلاثة اتجاهات، جنوباً وغرباً وشمالاً. . وتحمي القيادة من الشرق سرية من المشاة، ومن الغرب تسع دبابات.‏

الليل يجوب الشوارع، والأحياء المقفرة، الخالية. احترقت الأضواء. وما تبقى سوى أضواء خافته. القمر كهل، كشيخ يُلقي على كتفه زوادته. تحجبه غيوم عابرة، وزخات من المطر... طائرات ركاب عابرة. الجنود بلباس الميدان الكامل، يتحفزون لأية إشارة. . الساعات القادمة تبشر بقدوم أمطار نارية، ورعود صاروخية، واحتكاكات أسلاك الكهرباء..‏

سبطانات الدبابات والمدافع، ستحصد الجدران الأسمنتيه والبشر.‏

برقية عاجلة جداً " ساعة الصفر، الثانية عشرة ليلاً. استخدام جميع الأسلحة النارية". كان "قا.ك"في إجازته الأسبوعية. ورئيس الأركان ترافقه عناصر الإشارة، فوق سطح البناية العالية.‏

تُرسل أوامر القتال بالشيفرة عبر الأجهزة إلى السرايا وقيادة اللواء. القذائف الأولى من راجمات سلّطت نيرانها على المجلس الحربي.وجّهت الدبابات قذائفها، باتجاه الصيفي.. الأربيجيات" فتحت في الأبنية طاقات. .. حرائق أدخنة. نيران. تلتقي مع بعضها. شقّت طريقها من النوافذ والأبواب... صراخ وعويل وبكاء. نساء وأطفال، يجرجرون أقدامهم، يتلطون متخفّين بجانب الجدران، يتنقلون بين الأشجار. يحملون صرراً وبطانيات. الهواء المحمّل بالأمطار يتدفق صارخاً من البحر. حبال المطر المائلة تقفز قطراتها، وتنط فوق الإسفلت البارد.‏

قطّب رئيس أركان الكتيبة حاجبيه.. أشار إليَّ بالكتابة. " اكتب يا محمود برقية إلى " قال" أخذت مكاني خلف عمود الأسمنت، ويقف بجانبي مجند يحمل شمعة فستقية اللون... كتبتُ البرقية التالية :" نيراننا تحصد القوى المعادية. . نيران قادمة من البحر. لا خسائر حتى الآن بين قواتنا. . سنعلمكم بعد قليل بآخر التطورات على جميع المحاور". - "قا.ك"-‏

تحترق ساعات الصباح، وتطول، وحينما يشقّ الضوء الفضاء المجاور للبحر، كانت الطلقات تشعشع، وسيارات الإسعاف تصرخ بحدّة، ويمتد نعيقها على اتساع الأفق، فوق الماء واليابسة.‏

صرخة حملتها موجة هواء حزينة إلى السماء. طرقت أُذنيَّ ثم انقطعت. هبطت السلّم، أقفز الأدراج، ومدخل البناية، والطوابق مرصوفة بالجنود، وصف الضباط. وعلى جانبي الشارع المرّوع تصطف السيارات للرحيل!.‏

روائح كريهة تفوح، منبعثة من الشاحنة المحملة باللحوم والخضروات.. رائحة الخوف والموت تملآن المكان. وجوه حيرى. تركت السرايا أماكنها، وبدأ النهار يحبل بمواليد جديدة. جرحى يئنّون، وموتى في العراء. تركوا آمالهم في جوف بنادقهم.‏

حملتُ المنظار. ثبّته فوق عينيَّ. انطلق بصري يفتش عن " أبي ماركو" الذي بدا واقفاً وراء رشاش. تواجهه زخات من القذائف. لاتُحصى أعدادها. ينتقل من مربض إلى آخر. يتحاشى بصعوبة الطلقات الهاطلة فوقه. ينبطح، ثم يقف. يميل على هذا الجانب أوذاك. سلّمت المنظار إلى حيّان، مؤكداً له: متابعة رصد مواقعنا، ومواقعهم. أعْلِمْ القيادة عن أي طارئ أو تحرك جديد للعدو.‏

تنهّد. كادت الأنفاس المرتجفة تربكني.. فهمت منه "إصابة الملازم قائد فصيلة الدبابات"..‏

- نعم سمعت صرخة شقت الفضاء!.‏

- قنصة غادرة استقرت في صدره.‏

- أصابته حينما حاول الانتقال من دبابته إلى دبابة أخرى.‏

- لماذا؟.‏

- كيف يتحرك والقذائف الغزيرة كالمطر تئزّ، وتلفّ الفضاء.‏

لا أدري، وإنما هذا ما حصل!‏

- علمت أنه كان يجهد من أجل مساعدة قائد الدبابة الثانية، لفك حالة الاستعصاء.‏

- وماذا جرى بعد ذلك؟‏

- مازال ينزف وينزف، ولم يستطع الطبيب إنقاذه.‏

- إذا، عبد الستار، الملازم النشيط، الشجاع. يكاد يفارق الحياة!‏

- لاتقل ذلك، ولكن الطبيب يعمل بكل إمكاناته لإنقاذه.‏

-لكنه، كما سمعت يحتاج إلى عملية جراحية.‏

- معك الحق. . الطبيب غير مختص بالجراحة.‏

فما دور سيارة الإسعاف؟‏

- كيف تصل إلى المنطقة الغربية؟.‏

- عن طريق " البور".‏

-والحواجز المسلحة!.‏

كان حيّان يؤشر بيده، ويصرخ ملء فمه. . محمود. . محمود بين الازدحام والاختناق البشري، والموت، والأنين، والغوغاء، والروائح الكريهة، ولكني فقدت السمع، استدركت متأخراً. صعدت السلّم الطويل درجتين درجتين.‏

برقية عن نتائج معارك النهار. فتحت لوحة الشيفرة. رمّزتُ الكلمات التالية وُصغتُ البرقية: "استشهد الملازم عبد الستار أُصيب بجروح بليغة، أربعة جنود. الطريق مقطوعة. لم نستطع إخلاء الجرحى. فَقَدت كتيبتنا ثلاثة جنود من سرّية الإشارة - وهم من الاحتياط - في اليوم الذي سبق المعارك، بسبب مخالفتهم للتعليمات".‏

- مَنْ هؤلاء الجنود. ألا تعرف أسماءهم؟‏

-إنهم من الاحتياطيين.‏

كيف فقدوا.‏

لم يلتزموا بالأوامر. خرجوا باتجاه الشارع الخلفي. يُقال إن جثثهم مازالت هناك.‏

ظلام وعطش، وهواتف مقطوعة. تشويش على أجهزة الإرسال. . وجود إسعافات أولية للجرحى. .. عبد الستار، الملازم الشهيد، جثّة صامتة فوق لوح خشبي.. يغطيه شرشف. . تتابع مدافع الدبابات القصف، متناوبة في إلقاء القذائف.‏

يتحرك حيّان كلولب بين الحشد البشري، يصعد وينزل كالمكوك، ويتفقد وصول السرايا والفصائل، والخرائط، والتعليمات السرّية للغاية، والكتب العسكرية، وكل شيء.‏

- ماذا نأكل يا حيّان؟ لاخبز، ولا برغل! ولا. . ولاشيء يسد رمقنا!‏

-لا تيئس. ستنفرج قريباً!‏

- إنها حالة صعبة، يمكن أن تستمر أسبوعاً آخر!‏

- هل تصدق أن القيادة لا تؤمن لنا الطعام!‏

- ستحاول بأية وسيلة.‏

-أذهب ياحيّان. . ثلاثة أيام والجوع يفرم مِعَدَنا. .. أذهب وفتش في براميل القمامة عن الخبز اليابس.‏

-لا يامحمود. . أبقى دون طعام ولا أقترب من البراميل.‏

- لماذا؟.‏

- وجود فئران، وجرذان حيّه وميتة.‏

- الجوع. . الجوع اللعين، وإذا جاع الإنسان، ماذا يعمل؟ وماذا يأكل؟‏

- الحالة صعبة، قاسية جداً!.‏

- الله كبير! سيفرجها!.‏

وإذا لم تنفرج!‏

- سنرى!‏

- نصوم!‏

ارتفعت حرارة الليلة الثانية. نداءات الموت صارخة. قذائف من أنواع مختلفة. . البناية طرزتها الطلقات. .. أصبحت كالغربال، مما يذكرني بـ " غربال نعيمة " سيتغربل الناس في هذه المعارك!‏

- هل تلاحظ أن عدد المصلين يأخذ بالازدياد؟‏

- الخوف. . الخوف من الموت. . الحياة غالية.‏

- بعضهم يقرأ الفاتحة.‏

- وأنت!‏

-قرأتها مرة في الكرنتينا، حينما كانت نهاية سمر.‏

- أكره يا صاحبي تواريخ الموت. . أكره رؤية القذائف والرشاشات والرصاص، وموسيقا الجنازات. . مسلسل أحتفظ بشريطه منذ سنوات. . سنتان تسكنان، وتقبعان في قلبي وداخلي بكل ما تحتويان من حلاوة ومرارة ؟، من مجازر مهلكة، موت بالجملة. . الآن حين ألمح الدماء، كأنني أحرّك حبّات سبحتي بين أصابعي.‏

- ألم تحزن؟‏

- كبقية الناس، لكني أكره الموت والجبناء.‏

- ما موقف " أبو ماركو" وهو من منطقتكم ؟‏

- يقاتل برجولة، وتفانٍ دفاعاً عن عائشة. لم يغادر موقعه. وفوّت الفرصة على مجموعة من المسلحين المتسللين، وأعطب " ملاّلات" تابعة لحزب الكتائب.طُبعت عليها نجوم سداسية.‏

وفي منتصف الليل، برقية عاجلة من (قال) هذا نصّها :" سيتوقف القتال في الساعة الثانية عشرة والنصف ليلاً.. التزموا بالأوامر، والتعليمات. سيكون ضابط الارتباط عندكم في تمام الساعة الرابعة صباحاً. ستتلقون تعليمات جديدة. بعد نصف ساعة"‏

تساءلت: كيف وصل "قا.ك" من دمشق في هذا الوقت؟ تجنبتُ سؤاله، عن كيفية وصوله. لقد نزع الرتب عن كتفيه. ينمُّ وجهه عن أمر ما حصل له، لكن، بعد أن شربنا الشاي، وبللنا الخبز اليابس الذي جلبه حيّان من البراميل، ظهرت ابتسامة عريضة، أنيسة فيها عزة النفس - فوق ثغره! طلب إعادة قراءة البرقية. قرأتها للمرة الثالثة. لم يصدق ماذا يحصل! همس :" أمَنْ المعقول أن القتال سيتوقف بهذه السرعة؟"‏

هنأه رئيس الأركان بالسلامة أولاً. . تابع طالباً منه استكمال ماجرى معه. اقتربنا منه، وتحجرنا حوله "أنا وحيّان، وعناصر الإشارة والحاجب "السواس" "قال: "وصلت إلى مقرّ الكتيبة بصعوبة. تسللت من بيروت الغربية بين الطرقات. والزواريب، والزوايا. حاولت الابتعاد عن الحواجز المسلّحة الثابتة، مررت على بناية "فتّال" فوجئت بفراغ المكان، ومغادرة السرية. . مساند رملية ودواليب سيارات تحترق. . هذا ما جرى. . وسأخبركم بما تبقى من مشواري في الأيام القادمة إن سمح لي الوقت".‏

برقية جديدة :" احتجزوا الشاحنات المدنية، وقبيل طلوع الشمس ستنتقلون إلى مكان آخر. لا تنسوا الشهيد عبد الستار، والجرحى. أنقلوهم في سيارة إسعاف".‏

تبادلنا الحديث والمشاورات. هبطت أنا وحيّان إلى طابق الثاني. جهزنا الخُزن والأسرّة، والبطانيات، وأشياء عديدة.‏

وفيما كان الصباح يعزف لحناً جنائزياً، كان رتل طويل من الشاحنات والسيارات الصغيرة، يستعد للتحرك والرحيل. استمر القنص، ولم يتوقف طوال ساعات. رافقنا طوال المسير فوق طريق محفرة. قطعت السيارات جسر نهر بيروت - تتقاطع في هذه المنطقة عدة جسور - سلك الرتل الطريق المؤدية إلى برج حمود، وتتفرع منه طريق ثانية إلى منطقة "الدورة ". تطلّ "الأشرفية" علينا و" كرم الزيتون " يواجهنا. أبنية فوق مرتفع تشرف على الطريق الذي يربط نهر بيروت بجسر الموت!‏

-2-‏

ربطات الخبز الأبيض المقمّر كانت هدية سكان "برج حمود"، غالبيتهم من الأرمن. . هذا رمز لصداقة قديمة تعود إلى أيام السفربرلك!‏

التفتُّ إلى حيّان. . ابتسم. . أشرق وجهه، كغير عادته! وهو يُدخل نصف رغيف في فمه دفعة واحدة..‏

- مارأيك بهذا الخبز الذي يعوّضنا عن جوع الأيام الفائتة! لا نريد سوى الخبز"الحاف" دون لبن أو بيض. سنملأ بطوننا ونشبع. . ثلاثة أيام من الجوع والسهر والموت البطيء.‏

توزعت الشاحنات والجنود على الأبنية، كنصف قوس امتدّ من البحر حتى برج حمود. أخذت السرايا مواقعها الجديدة. بقايا رائحة بارود. . طلقات متقطعة. . صدى قنص من المناطق المجاورة.‏

كان الليل يغطي جميع المقتتلين. توقفت الأمطار. انتشر الدفء القادم من الحرائق ومن البحر والسماء وحديد السيارات والقلوب والرؤوس. العرق يجف فوق أجسامنا. ملح البحر يمسح وجوهنا وجلودنا.. بذلاتنا العسكرية تقزز النفوس.. لحانا طالت وتدلّت كسولة ملبّدة بالعرق والغبار والملح والبصاق. التصقت جواربنا بجلود أحذيتنا. . هكذا وهكذا . هذا ما حصل، ولا أحد أحسن من الآخر!.‏

تسللنا إلى شركة "التبريد" المهجورة. . شركة تتسع لجيش جرار.. طوابقها معتمة زوابع من البعوض. أفواج تأتي، وأخرى تهاجر. مياه آسنة. راقدة أمام الشركة. رائحة عفونة ورطوبة قاتلتين. . لكننا عندما صعدنا إلى السطح الواسع، كانت النسمات الغربية تحمل الهدوء والراحة، وبقايا قطرات من الدماء، وأنفاس ثكالى، وأنيناً، وأوجاعاً لم نعرف مصادرها.‏

أخذ القمر الجميل يؤنسنا، وديعاً، مسالماً، يفيض بالحب والحنان. يزيح الغيوم من طريقه بيدين جريحتين، واهنتين. يبعث ضوءه الخافت، وتطوقه أدخنة، وشظايا، وطلقات فارغة، وقذائف مدفعية ثقيلة، وصواريخ، وحمم تحرسه نجوم مبعثرة، موزعة في قبّة السماء. وعلى أطراف الغيوم وذيولها، خرائط، وبين كتلها المتراصة والمتباعدة مدافع، وراجمات، وخوذ جنود، وسواعد مقطوعة، وأصابع مفرومة، وأكفّ أطفال، وعيون ملوّنه، وجثث محمولة فوق حمّالات، جنود يصعدون سلّم المجد إلى السماء. عجائز وأطفال من حيّ الأرمن يحملون الخبز، يوزعون العشاء لضيوفهم، وهم يضحكون ويهمسون بكلمات الترحيب. ليلة هادئة، مسكونة بإشارات الانفجار القريب.. استراحة قصيرة للمقاتلين.. استجمام مؤقت بعد ثلاثة أيام من القتال.. هجم النوم في هذه الساعات، وكانت الأرض فراشاً مُريحاً. . أجساد مُنهكة، تلفّها بطانيات لم تتعرض بعد للاحتراق.‏

وضعتُ حذائي تحت رأسي. تعالى الشخير.. الحراس على مداخل الشركة.‏

ثُبّت رشاش " 14.5مم" في منتصف الشارع المنحدر نحو " الدورة " وصواريخ، ودوريات محمولة وراجلة تجوب المنطقة من البحر إلى البرج.‏

الصباح يشرق، ويشدّنا الدفء والحبّ من أهدابنا. نهضنا نحمل أسلحتنا. قنصٌ يداعب الشمس. تندس الطلقات السامة بين خيوطها المربوطة في قلوبنا. ظلت محاور القتال تتبادل التحيات من قذائف مدافع الهاون، والرشاشات. سيارات تنقل المدنيين، وتمرّ من "برج حمود" باتجاه " المجلس الحربي". مئات ومئات الشباب " ذكور - إناث" - زوارق حربية تعوم فوق البحر. تراقب الشواطئ والأبنية تقترب من مواقعنا.‏

عاد القتال شرساً. تدوي القذائف، يرتطم صداها بجدران الأبنية. كان الجنود يملؤون الأكياس بالرمل، وينقلونها إلى مواقعهم. يحضرون صناديق الذخائر. يأخذون أمكنتهم بهدوء.‏

توزعت مرابض المدفعية بين الجسور. حدّد كل مدفع اتجاه سمته. أما الدبابات فربضت موجهة سبطانات مدفعيتها إلى البحر. قبعتْ في حفر. لا تظهر إلاّ فوهات المدافع. . وحولها تكدّست صناديق القنابل بعناية وترتيب.‏

أوامر شديدة، بعدم الردّ على القذائف القادمة من مختلف الاتجاهات. استغلّت عناصر الكتيبة هذا الموقف، لتنظيف الأسلحة، وتزييتها، وتوزيع المهمات القتالية. بدأت عناصر المطبخ تُحضر المواد، وتوزعها على السرايا " علب لحمة وفاصولياء، وأحجار فوسفورية"، لتسخينها. تمَّ الاستعداد والجاهزية العالية، مما يبعث في نفوسنا الأمان والأطمئنان، خاصة بعد تأمين الخبز من "برج حمود".‏

قلتُ. . تبادلتُ الحديث مع نفسي :" هذه المنطقة أقرب إلى جسر الموت، سيكون الرصد دقيقاً، وصائباً. كنت أجرّب، محاولاً رؤية الجسر من نافذة ينبسط أمامها نهر بيروت بجوانبه الأسمنتية التي تحتضن أوتوستراداً عريضاً".‏

سأرصد جسر الموت حتى آخر ساعة، فما دامت المعارك قائمة ومستمرة، سيرافقني المنظار كصديق في هذا الوقت الملتهب.. ومادمت في بيروت الشرقية، سأرصد محاور القتال والمناوشات.. هذا الجسر يشكل منطقة التقاء ومقبرة جماعية. اغتسل بالدماء. انبطحت وارتمت فوقه عشرات الجثث، ومن مختلف الأعمار والجنسيات. .. أصبح مدفناً مكشوفاً دون سقف أو جدران سوى السماء البعيدة البعيدة، جثث متفسخة عشش فيها الذباب والحشرات والديدان تحرثها تغوص بين اللحم والأضلاع، والسيقان والسواعد.‏

هذا ما تمَّ رصده الآن من موقعي في "برج حمود"، ومن نافذة في شركة التبريد‍.‏

-3-‏

يرافقني حيّان في مشواري الطويل. لايمكن، ومهما كانت الصعوبات أن يتخلّى عني، وأنا كذلك. رسمتْ صداقتنا صوراً من الجوع والقحط والخوف، خرائط من المحبة.‏

كان حيّان كالدولاب ينتقل من سرية إلى أخرى. يجلب الأخبار. يتابع الرصد. أصبحت صداقته مع / أبي سركيس/ متينة وصلبة، وقوية.‏

تعرّفت على قصة حياته من أولها إلى آخرها. كفى يا حيّان، كفى أشبعتني قصصاً، وحكايات، لكنها كانت مشوقة ومحفّزة للاستماع، والإصغاء، كأنك عجّانة ماهرة، تصفّ الكلمات، وترصف الجمل المحبوكة بعناية ومهارة فائقتين، كما تصفّ العجّانة أقراص العجين. تمهّد للقصة كأديب بارع. إنك صاحب ذهنية وقّادة. . أنت الآن على نار حامية وحارة. أعرف لماذا تدخّن كثيراً، وتبتسم، ويتراقص شارباك الكثيفان، وعندما تضغط بشفتيك على كعب السيجارة تنهض وجنتاك، وتتسع غمازتاك كبيضتين صغيرتين.‏

بهدوء ودون استعجال عرف ما يدور في ذهني من شوق للاستماع لحديثه.. وتابع.. أبو سركيس أمضى عشر سنوات في حلب بعد هجرته من تركية. طفل رفس الموت صدفة، بعد أن حصدت المجزرة اللعينة أكثر من مليون أرمني. حملته إحدى العائلات معها، واستقرت في حلب الشهباء، ثم أصبح شاباً وسيماً، يعمل في إصلاح السيارات. ها هو يبلغ من العمر الخامسة والستين. تزوج وأنجب صبياناً وبناتاً. البنتان تزوجتا. أما الولد البكر فسافر إلى امريكا، والولد الثاني ذبحته إحدى العصابات. عمر زوجه نحو خمسين عاماً، ولكن مظهرها الخارجي لا يدل على هذا.‏

عند وصولنا إلى "برج حمود" كان الملازم هشام قائد السرية الأولى ينزف بسبب قنصة مميتة استقرت في الجهة اليسرى، وقنصة ثانية اخترقت بطنه واستقرت بين فقرات ظهره. حاول أبو كيس إنقاذه، فنقله إلى عيادة طبيب في برج حمود، لكن الموت كان سبّاقاً!‏

أُصبت بحزن عميق لأني أعرف الأثنين، وأنا الذي نقلهما، وأحضرتهما إلى "قا.ك"، حينما التحقا بالكتيبة، إنهما من الدفعة الأولى " دورة السنوات الثلاث". أتذكر أنهما عندما وقفا أمام "قا.ك" وأدّياله التحية بقوة، حينئذ طلب منهما "قا.ك" تكرار التحية لأن الأرض لم ترتجّ من ضربة أقدامهما فوق البلاط النظيف اللامع.‏

أضاف حيّان قائلاً: إذا لم يشرب القهوة مع أبي سركيس كل صباح يظل ينتظره حتى المساء، فيحضر له العشاء وبعض المشروبات. ولاتستغرب فالمشروبات مع الطعام شيء عادي جداً في بيروت. وإذا لم تشارك يضحكون منك، ويسخرون، لكنني لا أُكثِر، فعندما أبلغ النشوة الأولى أتوقف.‏

تمرّ الأيام حلوة، ومرّة. . الشوارع رطبة، الأبنية متباعدة، ومناظر الجسور تمتّع الرؤية. . لقد منح الشتاء - وله الفضل نهر بيروت- الماء، فامتلأ المجرى. وكان الربيع يرسم خيوطه الخضر صباح، مساء. أخذت الشمس تظهر، فلا أدخنة، ولا حرائق.خرجنا نتدفأ بعد شهر ونحن في هذه الأقبية!‏

تساءلتُ : متى يُسمح لنا بالنزول إلى دمشق؟ طوال هذا الوقت ونحن نحيا بالأمل. كدتُ أنسى أهلي. ولم تَعدُ تتوارد إلى أذهاننا صور مدننا وقرانا الجميلة، وزوجاتنا وأمهاتنا. يفقد المرء قلبه، وعاطفته ويخسر أحلامه وأشجانه.. إنها حالة صعبة تتخللها مرارة وحرمان. أرى مواقد الحزن، والهمس الداخلي اللعين، خاصة حين يأتي المساء لاهثاً، محملاً بالغبار رديئاً، جاثياً فوق أفق الليل، تزدحم الأفكار المجنونة، وتتصاعد حاملة خلايا ميّتة، ودوائر، وأشكالاً هندسية، كفنّ تشكيلي معقّد.‏

صورة موجعة وقفت ولم تتزحزح. _ والدتي تقلّب طفلتي الصغيرة بين يديها. تقطر من عينيها دمعتان".‏

أعرف أُمي. قلبها طري كالعجين. تمتص اللوعة دون ضجة، صامته. تكدّس في قلبها وصدرها الأوجاع، كذلك أُمّك ياحيّان! قلب الأم لايبخل بالعطاء، وهل نحن هنا ندافع عن أُمّنا؟‏

أجواء أخرى أقلّ بشاشة وحبوراً تطغى علينا. الوجهان واجمان، كدفتي زورق، تقاومان الأمواج.. الشمس في هذا اليوم تودع الأبنية والمقاتلين والبحر. تهاجر مع الناس الهاربين من ويلات الحرب إلى بلاد بعيدة. قفزت أشعتها فوق السفن والبواخر.تركت بقعاً كبيرة من الألوان الخمرية، ترسم فوق الأفق إشارات وأشكالاً.‏

يلوح الغروب بلحظة الوداع. يهبط قرص الشمس. تعلّقت أبصارنا بالأفق الممتد الذي يحتضن بيروت، بدفتيها الشرقية والغربية. موسيقا تهطل علينا مع زخات المطر الربيعي. ينشر الليل دفأه الحالم. يوزعه على الجنود الرابضين وراء أسلحتهم بين أكياس الرمل..‏

وكان الشاطئ يتمنى أن يُغطس في رماله أقدام العشاق. وآذان الصخور تتفتح. تُصغي إلى صوت الموج الذابل في خدوشها. ترتطم مُنهكة القوى. تغادر البواخر مودعة، تحمل المغادرين. ولم تبقَ إلاَّ الأمهات، يحملن المناديل السود. تغطس في وجوههنَّ العيون المتفجرة الحالمة بعودة فلذات الأكباد.‏

تدور رحى الحرب من جديد. يسيل الدم. تتفسخ الجثث. يصلب الأحياء. وتقطع آذانهم، وألسنتهم. وتُنتهك الأعراض. تغتصب الفتيات الأبكار أمام أهلهنَّ. يصطف الأطفال بجانب ألعابهم الحربية، ويستمر إغلاق المدارس والجامعات.‏

نهض حيّان يتثاءب، حينما سمع دوياً مرعباً. حمل سلاحه، ومنظاره وبدأ يرصد من فتحة ضيقة، يلاحظ ما يدور بين الأبنية، وأحياناً يدوّر المنظار نحو النوافذ التي مازالت أنوارها الخفيفة وراء الستائر الشفافة. يدور ويتحرك، ثم يرفع المنظار عن عينيه ليتأكد من أمر ما. يكون الليل أنيساً رغم القذائف، ويخفف عنّا متاعب النهار.. وأنا أدفن قلقي وضجري، شريطاً من الصور بين دفتي قلبي. يتابع حيّان حراسته. يفتش بين طيات السكون عن تسلية. يتمنى مثلي أن يصرخ بصوت عالٍ. أن يخترق صوته الفضاء حتى يستيقظ الكسالى ويتوقف الشخير، لأن القتال ابتدأ شرساً‍‏

-4-‏

دبابة تصعد ملتوية بجسمها الثقيل فوق جسر الدورة. أطلقت عشر قنابل متتالية. . المرة الأولى التي أكون فيها قريباً من مركز إطلاق القذائف.‏

اعتقدتُ أن العالم تغير، وأصبحت بيروت جزيرة في البحر. طلقة هادرة كطوفان أصابت صورة تغطي نصف البناية، مثبته بحاملين. تواترات الطلقات، وتتابعت. ازدادت حدّة القتال. وكان تمزيق الصور وتقطيعها أحد أشكال التحدّي والمواجهة. وتكاثفت نيران القوات اليمينية من الاتجاهات كافة. تراجعتُ إلى مكاني. وضعت وجهي في النافذة، أراقب السماء المشتعلة، والقذائف المتساقطة. . أقواس من اللهب. دخان يتحلزن. يفتح دروباً، متجهاً نحو السماء. تدفعه هبّات الهواء باتجاه البحر.‏

بيروت ساكنة، يعتصر قلبها، جاثية، كأنها تصلي. ساقاها يغطسان في مياه البحر. يداها مفتوحتان، لفت نظري دبابة تتراجع بعد أن نفذت مهمتها بنجاح. انحرفت نحو اليمين. هبطت خلف الجسر. جاءت واقفة تمد ذراعيها تطلب النجدة. وبقيت نائمة وفي حالة نزف ثلاثة شهور منتظرة من ينقذها من هذا المصاب.. وحين خرج طاقمها سالماً، تبددتْ شكوكنا، لكن تساءلنا : كيف خرجوا سالمين؟‏

اندفع عشرات الجنود، وصف الضباط. تجمهروا. استمرت طاحونة المعارك بشراسة، ونحن ننقل المصابين بجروح إلى أحد الأبنية القريبة.‏

سألت سائق الدبابة " شربو" : كيف تنحرف بهذا الاتجاه؟‏

أنت الذي ترك الخابور، ولبّى نداء الاحتياط‍‏

- زاغت عيناي أيها الرقيب محمود.. أصابني الغثيان. وكان اعتقادي أنني أتراجع في الاتجاه الصحيح.‏

- الحمد لله على سلامتك.‏

مرت لحظات ساخنة، مفاجئة حينما أصابت الطلقات طفلين كانا يقطعان الجسر. الدماء تنزف من ساعد الطفل الأول. أما ساق الطفل الثاني فقد انكسرت.‏

يوم حافل، وعمل مضنٍ للممرض الذي لم يبخل بالجهد والدواء، ثم نقلهم بالسيارة إلى برج حمود.‏

كان حيّان يسجّل البريد الوارد والصادر. أشار إليَّ بإدخال مصنّف البريد إلى "قا.ك".‏

فعلتُ كما أراد، ونفذت طلبه، ولا يمكن أن أخالفه مع أن بإمكانه تنفيذ هذا العمل الجماعي في حالات القتال والحروب تذوب الفوارق بين الرتب الأفضلية للتعامل الأخوي والعمل. تتراص القوى أمام الأخطار، حتى الموت في مثل هذه اللحظات يقفز من الذاكرة، ويهاجر بعيداً.‏

كالعادة بعد أن طرقت الباب. أديت التحية. قدمت مصنف البريد. كان رئيس الأركان جالساً بجانب "قا.ك". يبسط أمامه خريطة بيروت ذات مقياس كبير مُحمّلاً عليها مواقع القوى المناوئة. تظهر عليها الشوارع والمحلات والأسماء "شارع فارس الخوري -شارع الجميّل - بناية شمعون".‏

تعبتُ كثيراً حتى أنجزت هذا العمل، خاصة تثبيت مكاتب الأحزاب" الكتائب - الأحرار -حرّاس الأرز"، وأهم المواقع المؤثرة، والحساسة " الصيفي - المجلس الحربي- بناية البرج في الأشرفية".‏

قلّب " قا. ك" البريد الوارد. توقف مليّاً عند قراءته للبرقية التالية: "غداً سيفتح باب الإجازات للذين مضى على وجودهم في بيروت ثلاثة أشهر".‏

رفع رأسه. حدّق في نائبه، وهو يقول: " هل تصدّق؟". تأكد يارقيب محمود من هذا الأمر. واهتف إلى القيادة‍‏

- حاضر سيدي: ثم قدمتُ إجازة لمجند في الذاتية " قرية شبعا في الجنوب" ضحك ساخراً.. - الجنوب ثانية يامحمود‍‏

- لا علاقة لي بهذا الأمر، ومن حقّه أن يحصل على إجازته‏

-كفى‍‏

أعاد إلى جيوب ذهني، وذاكرتي الممصوصة، الأمر الإداري، عندما نُقلت فجأة من الكتيبة المتجهة إلى صيدا. وتابعت قائلاً: هناك في الجنوب قتال ومواجهة، وفي بيروت الشرقية أيضاً قتال ومواجهة‍‏

- ماهو طلبك الآخر، والأخير. . أسرع لأن ورائي أعمالاً كثيرة!‏

-أريد إجازة قصيرة لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة.‏

- لماذا ؟‏

- من أجل إجراء المقابلة الشفوية، وتحقيق النجاح في المسابقة لحملة الشهادة الجامعية.‏

وقف "قا.ك" كأنه يستقبل رتبة أعلى من رتبته!‏

-أتعتقد أنك ستحقق النجاح؟!‏

- تقدمتُ إلى هذه المسابقة أسوة بزملائي. ودرجتي العلمية تؤهلني..‏

-ستُرفض حتماً!‏

- إذاً، ما العمل! ألا أستحق، كوني مواطناً، العمل في مؤسسات الدولة!‏

ولم أفهم ماذا تمتم من كلمات، وجمل مقطعه. شعرت أن غيمة حزينة تمسح أوجاعي بأصابع قاسية، وجافة. . قلت في نفسي" لا يكفي أن الفقر لاحق والدي حتى القبر، وأمضّ سني حياته خلال أكثر من ستة عقود. كان يهرب من سنوات القحط إلى فلسطين قبل طلوع الشمس".‏

خطيئة والدي تلاحقني أيضاً حتى الممات، لأنه كان يرفض المساومة، وأنا لن أساوم أبداً، سأترك الأمر للقدر، وقد أؤمن بالحظ أيضاً.‏

بدأ الاثنان يتهامسان " رئيس الأركان وقا.ك"، ثم طفحت فوق وجهيهما ضحكتان ودودتان.‏

دخل الحاجب " السواس" يحمل الشاي، ولحق به الممرض. رفع "قا.ك" قميصه، وظهر جرح في بطنه. . غيّر الممرض الضماد، وانسحب، وتركنا !‏

- هل يؤلمك الجرح سيدي؟ هكذا قال نائبه.. لا.. لقد مضى عليه أكثر من شهر، لكنه بقي مفتوحاً، بسبب الحركة والتنقل، وصعود السلالم.‏

استدرك. . وهذه تتمة القصة! وسأكملها لكم. " حينما وصلت إلى المنعطف، أردت النزول إلى رصيف الميناء. أوقفني حاجز من المسلحين. وقبل أن يسألوني عن اتجاه سيري، ومَنْ أكون، أطلق أحد المسلحين النار فتراجعت إلى الخلف قليلاً، مما خفف الإصابة، وحين تعرّفوا عليَّ، تركوني".‏

عدتُ إلى مكاني بعد جولة سريعة من المعارك الكلامية والمناقشات. كان حيّان يرصد فتحة "ثغرة" بين حيين في برج حمود، يمكن أن تشكل خطراً علينا. وطلب مني أن أرتاح هذه الليلة من المناوبة، ورغبة منه في متابعة التلصص بعد منتصف الليل، في أجواء هادئة وساكنة!‏

عرفت قصده وماذا يفكر " تختفي وراء الستائر الشفافة نجوم، تتراقص فوق أسرّة دوّارة"، تختلف عن أسرّتنا التي ما إن يستلقي عليها المرء حتى تحدثُ صريراً، وأصواتاً مزعجة، وأحياناً تلعلع كالرصاص. رغم الحرب اليومية وحوادث القتل والموت، والخراب، والدمار، نراهم يستغلون الوقت، عندما يتوقف القتال ويذهبون إلى النزهات. يأكلون أفضل المأكولات، ويشربون أطيب المشروبات. ينامون على أسرّة مخملية دوّارة، وأجسادهم عارية.‏

أكدّ لي حيّان من خلال رصده الطويل، أنه شاهد عروسين في شهر العسل يتعاركان، ولم يرَ غيرهما في المنزل. كان زفافهما قبل وصولكم بأيام.‏

وفي اليوم الثاني سأل حيّان أبا سركيس، فأكدّ له صحة حديثه قائلاً "لم يمضِ على زواجهما سوى فترة قصيرة وأشار إلى الكنيسة التي تهدّمت قبّتها. هنا تمَّ زفافهما! "‏

هكذا، ياحيّان أشعر أن صمتك يُخفي أشياء كثيرة لاتريد البوح بها. أنت تستمتع في رطوبة الليل وهدوئه، لكنك ستبقى محروماً زمناً طويلاً. ستظل اللوعة تصدّع روحك، وتحرق قلبك، ويدوس الحرمان على أضلاعك..‏

ضحك ببرود، والرذاذ يتطاير من فمه. . أجابني، وهو يمسح لعابه:‏

حدثني الحاجب " السواس" عن أمور كثيرة " أفلام دعارة، وألبومات صور، نساء عاريات". أيقنتُ انه يبالغ، ولن أصدّ ق هذه الأقوال.‏

ساد الصمت. وجوهنا واجمة. تتلذذ بسماع الأخبار الجديدة.‏

وكانت رائحة البرغل تملأ الأنوف. النهار يولد في كل ساعة، ويظلّ الليل يحبل بالآلام والأوجاع.. تمر الأيام متسارعة، راكضه، لانستطيع اللحاق بها، لكن الذكريات لن تموت.‏

لن تموت الذكريات المجبولة بالعرق والسهر والتعب والخوف. يبقى اليسار يقاتل في الجنوب، ونحن نقاتل اليمين، بعضنا يساري، وآخرون يكرهون اليسار واليمين والوسط. آخرون يدّعون أنهم أقرب إلى الله من غيرهم، وقت الشدة، فيكسرون زجاجات المشروبات، لكنهم في المقابل يبيعون ( ورق الشدة ) إلى تجار بيروت الغربية. آخرون يتسابقون إلى الموت، فهذا قُطعت يده، وذاك يُقتل بسهولة. وهذا " عدنان" الجندي المتطوّع تقتله قنصة عندما كان يتأمل الحياة في ذاك المساء، وهو واقف أمام شركة التبريد، يحدّق متفائلاً. يحلم بإجازة طويلة أو بلقاء حبيبة، لم يره منذ زمن، أو يفكر في أمُّه الوحيدة في قرية نائبة‍‍! حتى هذا التاريخ كان التموين يؤمّن ذاتياً عن طريق الأسواق المحلية في برج حمود، أصبح أبو سركيس مسؤولاً عن شراء مئة ربطة من الخبز يومياً. وبلغ عدد الشهداء ستة، ثلاثة منهم بقوا في العراء، ودُفن ثلاثة في أرض قريبة من الكتيبة، حينما يأتي موعد تبديل القوات سيُنقلون مع العائدين.‏

أصبح القنص أمراً عادياً، ولم نَعُد نُصاب بالارتباك منذ الآن. تعودنا على أصوات القناصات والمدافع والقذائف الصاروخية. ننام طوال الليل، ومهما ارتجّت أرض البناء والشرفات نظل نياماً حتى الصباح، ولايبعث في نفوسنا الألم والحزن، مشاهدة القتلى والجرحى، ومن كثرة ماروعتنا المعارك والقتال، بأشكاله المختلفة، خلال الشهور الماضية.‏

فاجأني حيّان بهذا الخبر، وأرهق مسامعي وهو يردده، فرحاً.‏

" فتح " المبيت" أبوابه، وستكون دفعتنا الأولى. فقد مضى على وجودنا نحو أربعين يوماً، ونحن نشمّ روائح صادرة عن الأموات ومن الأحياء"‏

السفر إلى حلب بالنسبة إلى حيّان يعني الكثير، فهو أصغر اخوته ومازال عزباً، وتفكر أمّه بأن تخطب له ابنة خالته.‏

دافع حيّان عن نفسه أمام أهله، وأهلها، وأصدقائه، مدّعياً بأن أنفاس سمر تحاصره، حصاراً شديداً، وأن ابنة خالته بمثابة أخته.‏

كان الصباح وردياً. اختفت أجواء الحرب.. روائح عطرة يقذفها الهواء من كل الجهات، وتختلط زرقة السماء بزرقة الأمواج.‏

بواخر قادمة تزعق زعيقاً موجعاً كالبوم، تدفع أمامها كتل الماء،بواخر تغادر الشواطئ نحو جزيرة قبرص.‏

بدلتُ رائحتي حينما اغتسلت. خلعت بذلتي العسكرية. أغلقت عليها محفظتي الجلدية. ذقني حليقة، ناعمة. فرحة السفر أنستني أوجاعي وهمومي، وحرّكت كوامن هواجسي الدفينة في أعماقي. أحضرت من الدكان القريبة دزينتين من الزبادي والكاسات، تفقدت حوائجي ومشترياتي. همست في أذن حيّان " مرحباً يادمشق سيستقبلني الربيع بعد أن أتجاوز الحدود. تهتف الأشجار المنتصبة على جانبي الطريق، بقدومي. بردى يضحك، ويغني، بعد ذوبان الثلوج. تهبط مياهه هادرة من " الزبداني"، عذراء، لايعكرها سوى الذين يغسلون أجسادهم العفنة فيها، أو الذين يغسلون أوعيتهم، وثيابهم النتنه".‏

سألت حيّان : هل تتمّ هذه الرحلة ؟. بينما كنت أسرح، وأمرح مع أفكاري وأحلامي الساخنة، سألته هذا السؤال، لكنه كان مثلي يغرق في بحر من التأملات.. أجابني : - أعتقد بأن عقبات جديدة ستحول أو تقف في وجه رحلتنا. وسنفقد جمال هذه الأفكار الراقصة في قلبينا..‏

- ألا ترى الأجواء والفضاءات، هادئة، صافية !. أجواء بيروت يا محمود تتقاطع مع شاطئ ملوث، وكلما ظهرت غيمة في السماء، سرعان ما تفرغ حمولتها من الأمطار، وسرعان ما تتغير حالة الطقس. ألا تشاهد مثلي، " الدُشم" المزروعة في الجانب الثاني من النهر! ألا ترى أنها فارغة فلا يوجد فيها إلاَّ أكياس الرمل، فلا رشاشات أو قناصات. كل الأشياء اختفت من الواجهة المقابلة لنا، لكنني غير مطمئن، فهذه خدعة. . أنظر جيداً وركز المنظار، ثبته إلى رأسك، ووزع بصرك، ألا ترى السيارات المحمّلة بالرشاشات، والتي تدور في كل الاتجاهات..‏

تحركت سيارة المطبخ لجلب حصّة الكتيبة من المؤونة. استنفر الجنود، ووجهوا أسلحتهم إلى الخط المعادي، المواجه لنا، حتى إذا قطعت حدود الكتيبة، ستُطلق النيران بكثافة، حماية لها، إلى أن تتجاوز نقاط الخطر، وبينما كنّا نتحلّق فرحين حول سيارة "المبيت"، كان الرصاص يدوّي، ويغنّي في الفضاء. لم ينجح هذا العمل، لأن قذائف "آر. ب. ج" اخترقت مقدمة السيارة، فاشتعلت النيران. هرب مَنْ استطاع، ونقل السائق - إثر إصابته في ذراعه -إلى أقرب مشفى. وضعف الأمل- ولارجاء بشفائه، لأن شظية اخترقت رئته اليمنى‏

حلّت المصيبة، بل مصائب جديدة تزحف نحونا. تبدلت ملامح الوجوه وبدا الغضب عليها. بعضهم أصرّ على الذهاب. ولو تحت النيران، وآخرون لا يتحملون الانتظار أكثر. . لماذا إذاً المخاطرة ؟‏

كنت، أنا وحيّان لا نرغب في المخاطرة! حمل واحد محفظته. عدنا إلى غرفتنا سالمين، آمنين. لحظات، سمعت جهاز اللاسلكي يتكتك ويئنّ.. آلو. . مين. . حوّل!‏

فتحت خريطة بيروت. تابع " قا.ك" توجيهاته، وإرشاداته إلى قائد القوات الخاصة ( خمسون متراً نحو اليمين. . إلى الأمام. . نحو الغرب ) وجهت السرية المنتشرة قرب الشاطئ نيران أسلحتها بكثافة، وبدأت القذائف تحصد عشرات المسلحين الذين باغتونا بالهجوم، وهم يختبئون في البراميل، كلما أصابت قذيفة برميلاً أو اخترقته، يتدحرج، ثم يتوقف، أخفق الهجوم الُمباغت لنا، وكانت ليلة حافلة حمراء، أو سوداء مكحّلة. تابعنا الرصد، وجميع التحركات، وإرسال التعليمات حتى الصباح.‏

بَدت الشمس حزينة تغرف الماء من البحر، وتلقيه فوق النيران، فاختلط دخان الحرائق بالأشعة الذهبية، وكان الليل يبسط أجنحته، كالخفافيش.‏

استمر حيّان يتلصص على بيوت الناس في هذا الجو الملّبد، لو كان عنده الإحساس لغسل وجهه بهذه الأدخنة، وجلس في ركن من الغرفة يفكر وحيداً.. يترك الناس، ينسون الموت والمفاجآت..‏

- تأمل! اكتب مذكراتك. استمع إلى نشرات الأخبار!‏

كان حيّان يستمع إلى إرشاداتي، وانتقاداتي اللاذعة، وهو يغطس في نوم عميق، يحتضن المنظار، وينتظر قدوم الليل، لعلَّ القمر ينثر حُبّه من جديد بعد غياب طويل.‏

تحدثتُ مع نفسي. الصوت اليتيم في داخلي يزيح عن قلبي ضباباً. يغسل متاعبي، ويرنّ في أذنيَّ.‏

الغروب الأصمّ. الشوارع الهادئة. لا سيارات أو مارة، عدا ناقلات جنود تتحرك، كأنها تنطح الأفق. تودع الشمس. الأحلام تصافحني، فهي قريبة من ذاكرتي وقلبي، لكني لم أشبع منها، فهاهي تتوارد وتتكاثف متزاحمة لترديد النشيد الوطني، أو أغنية لفلاح لم يترك أرضه.‏

كان الليل يرسم في أفكاري أحلام المستقبل!‏

- لاتناطح الجبال يا محمود! لا تقترب من البحر، إذا كان في حالة هيجان. أكتب إلى الناس. اطبع على جبين كل طفل خاتماً مغموساً بالحب. عُدْ إلى طفولتك، وأنت تطارد العصافير، وتقفز فوق الأحجار في البيادر. اقرأ مرة أخرى "غربال" نعيمة اسرح في خيالك، ولاتبتعد كثيراً، لأن في البعد جفاءً للذاكرة، ووجعاً للقلب. قاتل الذين قسموا بلادهم، وقسموا أنفسهم !"‏

لماذا يمتد الزمن، ويستغرق هذه العقود والقرون؟ لماذا لا يضمر ويتقلص؟ تطول الخدمة العسكرية " الإلزامية " وتطول. اليوم في بيروت يساوي شهراً! وتقابل السنة عقداً! تمنيات عتيقة على مشارف الروح. أيام صعبة تحبل بالبعد، وتولد موتاً صفيقاً..‏

لو كانت مياه البحر أكثر حلاوة، لغسلت ُ جسدي فيها، وأخرجت ُ قلبي من قُنه الحجري، وتركته يعوم فوق الماء، ويتعلمُ السباحة، ويقاوم الموج! كلّ شيء أصبح مالحاً.. ملوحة. الأرض مالحة. السماء تمطر ملحاً، وباروداً. دبقتْ أجساد الناس من الرطوبة الزائدة. الموت مالح، والجرح يحترق من أملاح الجسد.. هذا الجرح المفتوح، ينزف دماً وصديداً!‏

تنكوي النفس المظلومة، وحين تتألق الروح ينفتح الجرح، ويضحك. . يضحك وسط الجثث المطمورة. يصبح البكاء حسنةً على الميت.. هذا البكاء يحمل البلادة والتكرار، فقط يغسل العيون، ينزع منها الأوهام المخزونة. وإذا انفتح مجرى الدمع يزداد البكاء، ويتحول إلى ضحك. نحن نضحك من أنفسنا. نضحك من ذواتنا المهدورة. . نضحك ونضحك، ولكن إلى أي وقت نظلّ هكذا؟ ومتى تتجّمد الابتسامات المقهورة فوق أفواهنا !.‏

-6-‏

في المرة الأولى حينما صعدت في طريق مرتفع، وملتوٍ، ضيقّ، يصل جسر نهر بيروت بكرم الزيتون. لم أعرف خالي أو يعرفني من قبل. كانت أُمّي تصفه لي، وتحكي قصصاً عن طفولته، فترسخت صورته ولون عينيه وطول قامته وشكل وجهه في ذاكرتي. أصبحتُ أملك المعلومات الكافية عن عدد أولاده وأعمارهم، وأولادهم، وزوجاتهم، وأعمالهم... . وحين ودعتني قبيل الرحيل إلى بيروت أوصتني :" اتصل بأخي أبي سمير. تعرّف يا أميّ إلى أولاد خالك. ولدوا في فلسطين وبيروت. وفي عام 1956، انتقل خالك إلى بيروت، وترك حيفا، حيث كان يعمل إطفائياً مع خالك سالم الذي هاجر إلى أمريكا".‏

أحضرتْ والدتي عُلبة من الحلويات المتنوعة هدية إلى أخيها، وهي تعرف أن اللبنانين يحبوّن الحلويات الشامية، وكنّا نراهم في أسواق دمشق، يقومون برحلات يومية، ويتبضّعون. وكان فرق العُملة في تلك الأيام، يتيح للزائر شراء أشياء كثيرة. أما بعد الحرب الأهلية الثانية، فأصبحت الليرة اللبنانية لاقيمة لها، وانقطعت زيارتهم ورحلاتهم إلاّ ماندر. . هاجروا. . وحوصروا..‏

أول مرة أصعد الطريق المرتفعة. . أخذ العرق يغسل جسدي. أثقل حملي عُلبة الحلويات، واللباس العسكري، الشتوي.. أثناء هذا المشوار الطويل لم يعترضني أي مسلّح.‏

كان لقاء حميماً. دموع وقبلات، وأسئلة. استغرب خالي وقال:" ارتدِ اللباس المدني ياابن أختي. . المسلّحون كالذباب الأزرق. بذلتك العسكرية إشارة واضحة. . وقتلك لا يساوي في هذه المرحلة ليرة لبنانية. . انتبه أكثر إلى حالك" "!!‏

أفكاري تزاحمت آنذاك. تقاذفتني أمواج هادئة من الخوف. ومنذ ذلك الوقت أصبح ابن خالي الصغير.رفيقي وفي كل يوم من أيام الآحاد أرافقه، في سيارته الخمرية. أمضي يوماً هادئاً، هناك في الجبال وغابات الأرز والصنوبر.‏

جميلة الجبال، والأجمل الطبيعة التي تسرق الألباب، وتفتح أمام الروح فضاء رحباً.. الطرقات معبدة، تصل بسهولة القرى والمدن وأماكن المتنزّهات. .أشجار السرو الباسقة تعانق رؤوسها المخروطية السماء الأولى، ويسرق الهواء البارد، الجاف حرارة الجسد. يوم حافل أشعر فيه بالسعادة تلامس شغاف القلب، وتعانق أجمل الذكريات. . راحة واستجمام ينسى المرء الأوامر، ويتخلص من ثرثرة الجنود، ومشاكلهم، وقضاياهم المكررة. راحة في الصعود والنزول على المدرجات الجبلية. .. أتخلص من تسجيل البريد القادم من الكتائب الأخرى. .‏

لابدَّ لي من تغيير الأجواء وتجديدها، وذلك لتجديد نبضات قلبي، وجعلها تتراقص، وتغني وحدها المواويل، فتتجدد الذاكرة، وتنشط، وتتحرك. تتحول إلى خزانة للحكايات التي أتلوها على مسامع حيّان‏

كان حيّان يدقق في ساعة يده المهشمة. يقف أمام البناء. يمدّ بصره نحو كرم الزيتون. يتفقد الأزقة و أوتوستراد نهر بيروت. يهمس، غير مطمئن على تأخري. و"قا.ك" يسأل، ويكرر الأسئلة عن وصولي. حتى إن حيّان كان يعجز عن الرد عليه، إلاَّ أنه قال له :" عندما يعود سأرسله إليك فوراً"‏

اليوم كان يوم الأحد. الحياة عادية، تسير سيراً طبيعياً. لم يعكرّ صفوها أي شيْ. لقد تأخرت، وبعد هبوط الليل بساعتين، أوصلني ابن خالي إلى مقرّ الكتيبة. "شفّط" بسيارته. كان "قا.ك" يفتح النافذة. ينتظرني.. أشار بيده إليَّ تابعت صعودي إلى الطابق الثاني. سرعان ما تبدلت ملامح وجهه. . أرى بين الحاجبين لغة جديدة، وسأسمع لهجة قاسية في هذا المساء، هكذا كنت أردد... وسيعكر صفاء نفسي!..‏

قال بغضب : -اجلس ريثما انتهي من عملي..‏

- بقيت واقفاً، وقفة عسكرية. يداي سابلتان بجانبي، ورأسي مرفوع‏

أشعل سيجارة. أحضر له الحاجب فنجان قهوة. .رائحة هيلها ملأت أنفي.أغلق الباب؟. وقف كأن حرباً جديدة ستبدأ بيننا.. لكنه استدرك قائلاً:‏

" عندما تقدمت بطلب إجازة، لتقديم المسابقة لم أبخل عليك، لكن ما معنى أن تغادر طوال النهار، ولم تَعُد إلاَّ في ساعة متأخرة من الليل".‏

حاولت ُ مقاطعته. .. أشار بالسكوت، وإلاَّ!!.‏

بدأ الدم يتدفق بسرعة. استنفرت أحاسيسي. كلام استفزازي.. " عُدَّ إلى العشرة يا محمود"، لأن كل غلطة ستؤدي إلى دخول السجن، وربما إلى سرّية التأديب. . ثبتُّ أعصابي ؟، وبلعت كلاماً كثيراً. . أقلعتُ عن تفكير جهنّمي.‏

وحينما سمح لي بالكلام واستمع إليَّ، كانت أعصابه تعود إلى هدوئها، وعاد لون وجهه الطبيعي كما كان...‏

أجواء بيروت هادئة، لا تعكرّها سوى النقاشات الحامية والمقالات على صفحات الجرائد والمجلات. تُقدَّم المبادرات والحلول المختلفة. عادت الحياة اليومية إلى طبيعتها.. كل هذا مؤقت، فالمعارك الطاحنة قادمة!..‏

كل شيء يتحرك عدا الشمس التي تراقب الموقف بحذر. بدا القمر في تلك الأيام أكثر حزناً مما كان. وجه مُضاء، ووجه معتم. وجه للسلم، ووجه للدماء والدمار. وجه يضيء الشوارع، ووجه أسود يضمّ الضحايا، وبقايا أبنية، ومعامل مهجورة، وسيارات معطوبة اناس مقهورون، وفوارغ موزعة فوق الأرصفة، بعضها قابع في الحفر..‏

سمرٌ وضحك، و أصوات. . دوائر وحلقات، جنود يلعبون " الورق" يمدّون أشرطة أحاديثهم الطويلة في سهراتهم. يتحدثون عن الأفلام السينمائية. هذا يتفاخر بأنه يشرب البيرة، وذلك يتمدّد فاتحاً صدره للهواء، يعدّد أسماء لم أسمع بها لأنواع الويسكي" وايت بلاك - وايت هورس " سجائر فاخرة، وإتقان الجلوس في مقاهٍ، ومطاعم رفيعة المستوى. . إجادة لترديد كلمات ناعمة بالفرنسية. ..‏

أحلام تحققت، وأحلام تضيء دروبها. . أحلام تتفجر، وأخرى تتكئ على بعضها، كان الفرق واضحاً بين قادم من المدينة وقادم من الريف.. الأول سرعان ما تلاءم مع الحياة وأتقن ممارسة مظاهرها المبهرجة.. أما الثاني فمن الصعب أن يتلاءم بهذه السرعة. ولكنه يحاول التقليد، والمشاركة أحياناً بخجل.‏

بيروت، المدينة المفتوحة على البحر والعالم صقلت من يحتاج إلى الصقل.‏

كانت عنيده. . لم ترضخ بسهولة، فالمدافع والصواريخ، والقذائف المعادية عجزت عن فرض الطاعة، وتركيعها..‏

وحينما كنت أقول لحيّان:" أنت من الريف وأقل تطوراً من أبناء المدن كان يشمئز، معتقداً أنني أُعيّره أو ألُبسه عاراً أبدياً ".. يجيبني " أنا ابن حلب الشهباء، لكن والدي باع المنزل، عندما ارتفعت الأسعار، واشترى خمس قصبات من الأرض في منطقة الصاخور بنى فيها أربع غرف، وثلاثاً في الطابق الثاني. أصبح البيت واسعاً وكبيراً، يتسع لنا.. كل أخ له غرفة، وإذا تزوج يدبر رأسه، ويخرج من البيت. يفتح بيتاً جديداً" قلت له بعد استقرار الهدوء واستمراره: جاء دورنا. . جّهز نفسك للسفر. . الآن. . لاحاجة إلى التغطية النارية الكثيفة حتى تقطع السيارة منطقة الخطر. سنكون في سعادة طوال الطريق..‏

لوّح حيّان بيده، عندما انطلقت السيارة باتجاه "سن الفيل".‏

- هل تعتقد أن لحظة الوداع، أجمل من لحظة اللقاء؟.‏

- لا يامحمود! سنعود بعد يومين. . الأرض الحامية تنتظر عودتنا. . إنها بحاجة إلينا الآن أكثر من السابق. سأعود إلى المنظار أتلصص على بيوت الناس، وهذه مهنة جديدة. أن تعرف ما يدور في داخل غرف النوم! ستُفتح النوافذ، وتُشعل الأنوار الملونة. الصيف حار، والرطوبة عالية. . وستمتد الهدنة، حسبما أعتقد. إن نواباً وأحزاباً. ومسؤولين، وقادة ميليشيات يتباحثون حول إنهاء القتال، وعودة الأمن إلى ربوع لبنان.‏

تحركت قافلة المبيت في تمام الساعة التاسعة صباحاً. قطعت السيارة جسر الموت. صعدت الطريق المرتفعة تلهث، ثم هبطت. . ارتفعت قلوبنا معها، وهبطت مع هبوطها. انفرجت اساريرنا. . كانت آخر محطة لها، فنزل الجنود يصفقون. كل منهم يحمل محفظته. يترنّم فرحاً...هنا في "سن الفيل" مكان التجمع، والانطلاق من جديد إلى سورية. حيث تجتمع العناصر من جميع المناطق التابعة للواء. تسير السيارات برتل واحد.‏

الجميع يتحفزون. ويرغبون ركوب الباص الجديد. كان حظي مع حيّان معقداً واحداً في باص قديم مهترئ. . صوت محركة كمروحية حربية عاصرت الحرب العالمية الثانية.همستُ بودّ ومحبة - قبل أن تتحرك السيارات -بأذن المساعد أبي فارس، أن يبقى معنا في هذا الباص، لكنه أصرّ متفائلاً بأنه يريد الوصول إلى دمشق لإنجاز عمل ما.‏

ألححتُ عليه -فرفض، وحدث ما حدث بعد ذلك!!.‏

قطع الباص منطقة "الفياضية". تجاوز الباص الجديد، يخطف الطريق، ويكاد يبتلعه،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رواية جسر الموت القسم الثالث وهي اخر قسم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رواية جسر الموت القسم الاول
» رواية جسر الموت القسم الثاني
» افتتاح القسم ــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابي تفاعل يلااااااا
» احلى توبيكات لعيون شقاويه وافتتاح القسم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات شـــقــــاوي :: منتديات العامه :: قسم القصص والروايات-
انتقل الى: